الحياة فيها الفرح وفيها الحزن, والإنسان تبدأ حياته بالولادة وتنتهي بالموت, وهذه سنة الحياة, والواقع أنه ما إن يعلن نبأ وفاة فلان أو فلانة حتى ترى النساء يذهبن وقد اتشحن بالسواد إلـى بيت المتوفى, وما إن يدخلن بيته حتى يأخذن بالندب والعويل على الميت وذكر محاسنه, وكن فـي السابق ولاسيما المقربات منه يمزقن ثيابهن الخارجية, ويلطمن الخدود ويخمشنها, وكن يكثحن ( يَحْثِيـنَ ) التراب أو السكن المتبقي من رماد التنور على رؤوسهن, ولاسيما عندما يكون المتوفَّى شاباً أو أن تكون الوفاة بسبب حادث, ويرافق ذلك الولولة, كما كن يغبن عن الوعـي, مما يستدعي رش الماء على وجوههن, أو وضع الحوارة على الشفة العليا كمنعش لهن, لكن هذه الأمور بدأت تندثر حالياً, كما يطلبن رؤيته ولاسيما أمه وزوجته وبناته وأخواته, مع رفض الرجال ذلك, ونتيجة إصرارهن يسمح لذويه برؤيته قبل خروجه من المنزل, وإذا كان المتوفى شاباً شهيداً وعازباً تسمع زغاريد النسوة أثناء خروج جنازته وكأنه يُزف إلى جنة الخلد حيث الحور العين, وكان الرجال يمشون وراء الجنازة وهم يرددون ( بنغمة حزينة ) :
لا إلـه إلاّ الـلّه لا إلـه إلاّ الـلّه
محمـدٌ رسولُ اللّـه صلّى الـلّه عليه وسلّم
كما كانت عائلة الخطبا ( كآل حبيجان والشباك والقطاش والرفاعي والقاعد... ) تخرج مع أمواتـها السيّارة أو السّنجَق أو ما يسمى بِعلم الخضر عند البعض, والسنجق عمود قد يصل طوله خمسة أمتار ويعلوه هلال نحاسي, ومحاط بثوب أخضر سميك كتبت عليه برقع مشرّطة حمراء وبيضاء أسماء الملائكة الأربعة وآية الكرسي, وهناك علمان آخران منفصلان أقل طولاً الأول يدعى علم الشرق والثاني علم الغرب, وهناك طبل كبير ( كان يسمى بطبل من شباك ) وعشرة مزاهر وصنجات, ويترافق بالضرب عليها مع ترديـد ما ذكرناه بنغمة حزينة ( لا إلـه إلاّ اللّه ) .
وكل هذه الأدوات تدعى النوبة, وكان يقودها الشيخ أسعد الشباك رحمه الله , واستخدمت في الأعياد والمناسبات الدينية, و كما قلنا عند موت أحد من عائلة الخطبا, وكانت تسير النوبة بترتيب دقيق حيث ينشر السنجق يتقدمه علم الشرق وعلم الغرب, وخلفه المزاهر والطبول والصنجات, وحشد هائل من الناس وهم يرتلون الأناشيد الدينية على أنغام الآلات المذكورة .
وحامل السيارة ( العلم ) مختصٌّ بحملها, لكن هذه العادة انتهت في السبعينيات من القرن العشرين , وذلك عندما توفيت والدة الشيخ أسعد الشباك رحمه الله (1 ), فامتنع الشيخ عن إخراجها للتخلص من هذه العادة, وليكون القدوة لعائلته, ومن المعتقد أن هذه العادة من الطرق الصوفية القديمة, حيث يقال لبعضهم ابن جد ( أو طريقة ) كما تروى قصص عنهم كاقتحام النار مثلاً, ولقد رأيت النوبة أو السنجق في منطقة عكار مرات كثيرة مع المزاهر والطبل ويترافق خروجها في جنائز الصوفيين وذويهم وكذلك في ذكرى المولد النبوي وتشبه ما كان يحدث في القريتين تماماً ولقد قمت بتصوير ذلك , الصورة رقم ( 11 ) .
الصورة رقم ( 11) السنجق أو النوبة أو ما يسمى بعلم الخضر
فالطرق الصوفية انتشرت كثيراً في بلادنا أثناء الحكم العثماني, وكثرت زواياها وتكاياها, أما اليوم فإن الذين يتبعون التصوف في القريتين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد, ولهم أناشيدهم الدينية الخاصة ينشدونها في سهراتهم بمرافقة المزهر فقط. وكانت النسوة يخرجن وراء الرجال إلى المقبرة أثناء التشييع إلا أن ذلك انتهى, فخروج النساء حالياً يكون في الصباح وبعد صلاة العصر وحدهن وغالباً بالسيارات, وأثناء الجلوس للتعزية يسود البكاء في البدء, ثم يقمن بالتسبيح حيث تعطى كل امرأة سبحة طويلة ويتبادلن التعازي والأحاديث.
والمرأة في القريتين تحزن على زوجها المتوفى أشد الحزن, وتبقى محافظة على ذكراه, ووفيّة له وتمتنع عن الزواج بعده قائلة عندما يذكر لها الزواج: ( والله تحْرَمْ الزلُم أو الرجال من بعدو ), إلاّ إذا أجبرتها ظروف الحياة القاسية وذلك من أجل تربية صغارها ( حملها ثقيل كما تقول ), بل كانت تحلـف بحياته قائلة: ( وحياة روح المرحوم ) !, وتدمع عيناها كلما تذكرته, إلاّ أنها لم تكن تعرف العدّة كي تطبقها, ولكن نتيجة انتشار العلم أخذت زوجة المتوفـى تطبق على نفسها العدّة بعد وفاة زوجها مباشرة, ولقد كان لزوجة المرحوم المدرِّس إبراهيم منصور (أبو بكر) ( 2 ) الدور الأساسي في بدء تطبيق العدّة، والطريف في الأمر أن بعض العجائز من الأرامل عندما بدئ بتطبيق العدة كُنَّ يسألن عن جواز تطبيقها وقد مرّ على وفاة أزواجهن عشرات السنين بحجة أن العدّة لم تكن على أيامهن، وبالنسبة للرجل ففي البدء تجده يرفض الزواج بعد وفاة زوجته, ولكنه في نهاية الأمر وبعد مرور أشهر يوافق نتيجة إلحاح الآخرين والمقربين منه ولاسيما إذا كان لديه أطفال بحاجة إلى رعاية أو في سن الشيخوخة, وعندما لا يجد في القريتين مَن ترضى به يضطر للبحث عن زوجة تناسبه من مناطق مجاورة ولا سيما من تدمـر أو مهـين, و مع ذلك يبقى الرجل وفيّاً لزوجته الأولى, يزور قبرها ليقرأ الفاتحة على روحها كلما ذهب إلى المقبرة, كما يبرّ أهلها وذويها, وهناك من نظم القصائد وأبيات العتابا في رثاء زوجته, وأشهر هذه المراثي القصيدة التي نظمها المرحوم محـمد أحمد الشلحة عندما توفيت زوجته أم عبد الرحمن وهي مؤثرة وباللغة المحكية, وهناك أبيات العتابا كتلك التي قالها إبراهيم إلياس الماهر ( أبو عدلة ) بعد وفاة زوجته ومنها هذا البيت :
1- لم يلتـئم 2- لم يقف بجانبي 3- من الظيم
ولقد كانت هناك عادات تتعلق بالمآتم ولم يعد لها وجود, منها أنهم كانوا يذبحون خروفاً عند النعش قبل الخروج به إلى المقبرة ويسمونها ( ونيسة ), ومنها خروج النساء خلف الرجال أثناء تشييع الجنازة وهنّ يلطمن الخدود... إلخ, والتعزية طيلة الأسبوع مع الدخان والشاي والقهوة وتجهيز الطعام وقد تستمر التعزية أربعين يوماً ولا سيما عند النساء, و إخراج الأطعمة والفاكهة والحلويات إلى المقابر والوقوف بجوار القبر صفّاً للتعزية في أول عيد يمرّ على المتوفى وتجديد الحزن, ومنها صنع الطعام بعد مرور أربعين يوماً على الوفاة ( الرعبون ) وفي خميس الأموات في أول خميس في نيسان, وتحريم الحوّارة وصنع الكبّة، والحقّ يقال لقد كان لانتشار العلم في القريتين وللمتنوريـّن المخلصين من أبنائهـا في هذا الزمن ولاسيما للشيخ أسعد الشباك ( أبـي محمود ) رحمه الله الدور الكبير فـي التخلص من هذه العادات.
حواشي وإحالات الفصل الثالث :
1 – الشيخ أسعد محمود الشباك رحمه الله تعالى : من مواليد 1924م, تعلم القرآن الكريم على يد المرحوم الشيخ سعيد الخطيب, كما تعلمّ على يد المرحومين المشايخ عبد القادر القصاب وعبد العزيز عيون السود وطاهر الرئيس, تسلّم الإمامة والخطابة 1950 م والتدريس الديني 1972م, وله دور كبير في إصلاح ذات البين والتخلص من العادات السيئة , توفي في دمشق 2017 م ودفن فيها .
2 – الشيخ إبراهيم منصور أبو بكر رحمه الله : من مواليد مهين 1948 م , إجازة في الشريعة , درّس في القريتين وسكن فيها بين عامي 1977 – 1999م , الصورة رقم ( 12 ) , تميز بتواضعه وبساطته وصبره وإخلاصه في عمله , وقد لعبت زوجته أم بكر الدور الهام في نشر العدة حيث لم تطبق في القريتين قبل مجيئهم إليها , توفي عام 2000م .
الصورة رقم ( 12 ) الشيخ المدرس إبراهيم منصور أبو بكر على اليسار
ومعه محـمد حسن الكناوي أبو عاصم رحمهما الله